تم النشر فى : الجمعة، 10 يناير 2020
الناشر : مؤسسة الوطن العربى الإعلامية - لندن ، المملكة المتحدة . WA MEDIA FOUNDATION - LONDON, UK
مفهوم ومعنى الأدب العالمى
مفهوم ومعنى الأدب العالمى - بقلم الدكتور : أحمد زياد محبك ..
الوطن العربى اليومية - القاهرة ..
الأدب العالمي هو الأدب الذي ارتقى إلى مستوى العالمية، واجتاز الحدود بين الدول، وترجم إلى كثير من لغات العالم، وحقق انتشارًا واسعًا، وشهرة كبيرة، بفضل ما يمتلك من خصائص فنية، تتمثل في تصويره بيئته، وتعبيره عن قضايا تهم الإنسان، مثل أدب: وليم شكسبير أو تولستوي أو فكتور هيجو أو آرنست همنغواي أو غابرييل غارثيا ماركيز.
ومثل هذا الفهم لهذا المصطلح غير بعيد عن المعنى الذي قال به الشاعر الألماني غوته«تـ1832» وهو أول من استخدم مصطلح «الأدب العالمي» Welt literatur - the literature of the world، ويعني غوته بهذا المصطلح الأدب، ولاسيما الشعر، الذي يرتقى إلى مستوى الإنسانية في موضوعاته وفنه، ولا يتخلى عن بعده القومي أو الوطني أو المحلي، ويحلم غوته بأن آداب الأمم سوف تلتقي ذات يوم في هذا الأدب العالمي، ولكن من غير أن تتخلى عن خصائصها المحلية ومن غير أن تذوب في وحدة الأدب، فهو لقاء إنساني، وهذا المصطلح هو قرين مصطلح الأدب المقارن والمرشح له، وقد نشآ معًا وكأنهما توأمان.
وكان غوته ذا أفق إنساني، فقد حاول تعلم العربية ليقرأ القرآن بها، وأعجب بألف ليلة وليلة، كما أعجب بالشاعر الفارسي «حافظ الشيرازي» ووضع ديوانه «الديوان الشرقي للشاعر الغربي» وفيه تأملات شرقية من وحي «حافظ الشيرازي»، كما كتب غوته عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عن إعجابه به، وبذلك مث�'َل رؤية إنسانية منفتحة على العالم، كما مهد لنشوء الأدب المقارن. وتعد عالمية الأدب أو فكرة الأدب العالمي فكرة إنسانية ذات طموح بريء بعيد عن الأغراض السياسية وبعيد أيضًا عن محو شخصيات الشعوب، ووسيلة تحقيق العالمية هي الترجمة في المقام الأول، وإن كان ثمة خلاف كبير حول جدوى الترجمة، إذ كيف يمكن درس نص بغير لغته الأصلية؟ لأن الترجمة تفقد الأدب كثيرًا من خصائصه الفنية، ولا سيما الشعر، ولكن يبدو أنه لا بد في المحصلة من الترجمة. وتنهض بالدعوة إلى العالمية المؤسسات الثقافية والجمعيات والروابط الأدبية والجامعات ووسائلها الصحف والمجلات والكتب، وهدفها المعرفة والإخاء والمحبة بين الناس والشعوب، وهدفها أيضًا الرقي بالذوق الفني.
والطموح إلى العالمية طموح قديم عرفته البشرية في الأديان والثقافات، فالسيد المسيح عليه السلام بش�'ر بالعالمية، إذ تتلخص دعوته بالقول المعروف: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المحبة. والأرض ههنا تشمل الكرة الأرضية كلها لا بقعة بعينها، كما أن لفظ الناس يشمل الشعوب كافة. كما نجد الطموح إلى العالمية في الدين الإسلامي، فقد قال المولى عز وجل في محكم التنزيل: }وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{، وكان الخطاب في القرآن الكريم دائمًا إلى الناس كافة، كما كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يؤكد دائمًا أن الناس جميعًا ينحدرون من أب واحد وأم واحدة، وأنهم جميعًا من تراب، وأن أكرمهم عند الله أتقاهم، كما يروى عنه عليه الصلاة والسلام قوله: «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله». ونجد بعض الأدباء والمفكرين والفلاسفة أصحاب طموح إلى العالمية، أمثال المعري الذي يقول:
ولو أني حبيت الخلد فردًا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي�'َ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وهذا الطموح إنساني أيضًا، ولا يمتلك شيئًا من القهر والقمع، ويمكن أن نذكر اتجاهين حققا العالمية، الأول هو الرومنتيكية، فقد دعا الاتجاه الرومنتيكي إلى العالمية وحقق المستوى العالمي في الشعر، وقد مثله كل من «لورد بيرون وشيلي وكيتس وورد زورث»في قصائدهم التي كانوا يرقون فيها إلى مستوى الإنسانية، وفي تطلعهم إلى تحقيق التغيير والخلاص للعالم كله، وإن كانت تطلعاتهم حلمية غير قادرة على الفعل في الواقع. أما الاتجاه الثاني الذي دعا إلى الأدب العالمي بصورة غير مباشرة وحققها فهو أدب الواقعية الاشتراكية، ولاسيما عند روادها الأوائل أمثال «تولستوي ومكسيم غوركي وتشيخوف» إذ إن أدب هؤلاء الإنسانيين حقق مفهوم الإنسانية وارتقى إلى مستوى العالمية ليس عن قصد، وإنما من خلال حب هؤلاء الأدباء للإنسان وتعاطفهم مع آلامه، ورغبتهم في تحقيق الخلاص للإنسان، ومن خلال صدقهم في تصوير الواقع في العهد القيصري، فكانوا يجمعون بين الواقعية في التصوير والرومانتيكية في حلم التغيير.
وقد تحقق الأدب العالمي في شعر شعراء مناضلين دافعوا عن الإنسان، ودعوا إلى الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية، أمثال الشاعر التركي «ناظم حكمت»، والشاعر التشيلي «بابلو نيرودا»، والروائي غابرييل غارثيا ماركيز.
ولكن الدعوة إلى الأدب العالمي تمركزت في أوروبا أولًا ثم في أمريكا ثانيًا، وأصبح المقصود بالأدب العالمي ما كتب بالإنكليزية أولًا ثم بالفرنسية ثانيًا، وهو ما يسمى بالمركزية الأوروبية، ورأى الدارسون الأوربيون أن الآداب التي تحقق العالمية هي الأدب اليوناني والروماني ثم الآداب الأوروبية، وربما اتجه هؤلاء الدارسون إلى الشرق قليلًا ليذكروا «طاغور» الشاعر الهندي، ولكن لم يحظ الأدب العربي إلا بالنزر القليل جدًا من الاهتمام من خلال ظروف ومناسبات تخضع للمصادفة، على نحو ما حظيت به «رسالة الغفران» للمعري أو بعض الأدباء المعاصرين الذين عاشوا في المهجر الأمريكي أمثال «جبران خليل جبران»، وربما لأن جبران كتب بالإنكليزية، فقد أقيم له تمثال في واشنطن، وهناك جمعيات أدبية في أمريكا باسمه، وما يزال كتابه «النبي»، وقد وضعه بالإنكليزية، مقروءًا إلى اليوم، وطبعاته تتجدد، وهو دعوة إلى البراءة والسماحة والحب كتبها جبران بأسلوب بسيط عفوي. وإذا كان حظ الأدب العربي من العالمية قليلًا فإن ذلك لا يرجع إلى أسباب خاصة به، ففي الأدب العربي من المؤهلات ما يرشحه إلى العالمية، ولكن هناك أسبابًا خارجية جعلت حظه من العالمية قليلًا، منها ضعف العرب وقوة الغرب، والقوي لا يهتم بالضعيف إلا من خلال مصلحته الخاصة، ولعل هذا السبب هو أهم الأسباب، وعنه تتفرع أسباب أخرى منها غياب الترجمة وتقصير العرب أنفسهم في التعريف بأدبهم، ويمكن القول إن الشاعرين «أدونيس» و«محمود درويش» والروائي «نجيب محفوظ» والمفكر والناقد «إدوارد سعيد» قد حققوا جميعًا قدرًا غير قليل من العالمية.
ولابد من أن نشير إلى أن المقارنين الفرنسيين، وعلى رأسهم «بول فان تييغم»، قد رفضوا فكرة الأدب العالمي وسخروا من رأي «غوته»، وسار على هذا النهج رائد الأدب المقارن في الوطن العربي «د.محمد غنيمي هلال»، وظن أولئك جميعًا أن «غوته» يقصد وحدة الأدب العالمي وأنه يدعو إلى حلول الأدب العالمي محل الأدب القومي، ولكن «غوته» لم يقصد إلى ذلك، وقد طرح المقارنون الفرنسيون مصطلحًا بديلًا هو الأدب العام، ولا يختلف في فهمهم لهذا المصطلح عن فهم «غوته»، ولذلك يظل رأي «غوته»جديرًا بالدرس، لأنه المبشر بالأدب المقارن والممهد له.
ولا بد هنا من التمييز بين العالمية والعولمة، فالعالمية اختيار ثقافي حر، وهي طموح إنساني وحلم جميل، غايته التعارف والتواصل بين الشعوب، والحفاظ على الخصائص القومية والمحلية لثقافة كل شعب، ووسيلة العالمية النوادي والصحف والكتب والدوريات والترجمة، في حين أن العولمة هي نظام اقتصادي واحد يراد فرضه على العالم بالقوة وعبر الشركات المتعددة الجنسيات، بالاستفادة من خيرات الشعوب وثرواتها الأولية، وتسخيرها لتشغيل المعامل في الدول الصناعية، وفرض أنموذج اقتصادي عالمي، ودحر الاقتصاد المحلي، وسيطرة أنموذج ثقافي واحد، وتغييب الثقافات المحلية وتذويبها في ثقافة سائدة، ومما لاشك فيه أن هذا الاقتصاد الواحد المسيطر هو اقتصاد القوي، وأن هذا النموذج الثقافي المراد له أن يكون وحده السائد هو نموذج ثقافة القوي، وهذا ما تتطلع إليه أمريكا، وتدعو إليه في أشكال دعاوية مختلفة، منها النظام العالمي الجديد والعولمة والديمقراطية، وتتخذ وسيلة إلى ذلك وسائل الاتصال والتوصيل، من مثل الحاسوب وشبكة المعلومات العالمية والبريد الإلكتروني والقنوات الفضائية وسيطرة اللغة الإنكليزية، لغة الحاسوب ووسائل الاتصال والمؤتمرات العالمية، كما تتخذ وسيلة إلى ذلك الموسيقا والأغاني الهابطة والأفلام السينمائية والتلفزيونية والقنوات الإباحية ومطاعم مكدونالدز والشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات والفنادق العالمية، وفي حالات أخرى تتخذ من التدخل العسكري المباشر وسيلة إلى ذلك.
ويزعم دعاة العولمة أن فرص عمل كبيرة ستتاح للشباب، وأن العالم سيتحد وستزول الحدود بين الشعوب، وسيصبح العالم كله قرية صغيرة يحكمها اقتصاد واحد وتسودها ثقافة واحدة، كما ترى في العولمة وفي النظام العالمي الجديد نهاية التاريخ، ومثل هذه الدعوة وهم يستحيل تحققه، لأن شعوب العالم تسعى دائمًا إلى الحفاظ على موروثها وتأكيد هويتها وتحقيق تميزها عن الشعوب الأخرى واختلافها، ويبدو أن العالم يزداد مع العولمة انقسامًا، إذ يزداد غنى دول الشمال، ويزداد فقر دول الجنوب، كما تزداد الهوة اتساعًا بين هذه الدول وتلك، فدول الجنوب تعيش في الحد الأدنى من مستوى العيش، ودول الشمال، ولاسيما الدول الصناعية، تعيش في الحد الأعلى من الرفاهية، وهذا يؤكد أن العولمة هي مجرد وهم.
ومصطلح العالمية هو بالإنكليزية UNIVERSALISM من كلمة UNIVERSAL وتعني العالمي، أو الكوني، ومصطلح العولمة بالإنكليزية هو GLOBALIZATION وأصله من كلمة GLOB وتعني الكوكب، ولاسيما كوكب الأرض، وقد ترجم المصطلح في البدء إلى العربية بـ «الكوكبية»، ولكن هذه الترجمة لم تنتشر، ولم تستقر، وشاعت الترجمة الحالية: العولمة، وهي على وزن فوعل من العالم، وهذا الاشتقاق جديد، ولا نجده في المعجم، ولكنه استقر، ولعل الخلط بين العولمة والعالمية راجع إلى اشتقاقهما معًا من كلمة عالم، إن لم يكن هذا الخلط في بعض الحالات مقصودًا للخداع والتضليل.